الصديقــان التوامان .. !!!
تأليف / محمد بدر الدين بسيونى
قرائى الأعزاء .. لا يهم ذكر اسماء الاصدقاء فى قصتى هذه .. ليس لشئ ولكن لوجود هذه العينات من الناس التى تدعى الصداقة .. فمنهم من يجعلها كأساس فى تعامله مع كل البشر ولم يحسن اختيار .. الصديق .. الصدوق .. ويظهر صدقه فى تعامله معهم .. معتقدا أن الكل على مبادئه .. الصدق فى التعامل .. وأحيانا كثيرة يخيب ظنه .. فيندم .. ويرجع عن كلامه باحثا عن اصدقاء أخرين .. لعل وعسى يصل لما يبغيه من ناس تقدّر وتفهم معنى الصداقة بمعناها الحقيقى .. وهيهات يتحقق ما يصبوا إليه .. والكثير منا يودع الدنيا مهما طال عمره ولا يبقى له غير السيرة الطيبة والذكر الحسن .
الصديقان هنا من نوع آخر .. ليس لكل منهما مصلحة خاصة يحققها له فتنتهى علاقاتهما بمجرد انتهاء مصلحة أحدهما ويبتعدا عن بعض .. كما لو كانا لا يعلما عن بعض أى شئ .. ولدا فى حى واحد بل عمارة واحـدة .. نما كل منهما .. التحقـا بالمدرسة الابتدائية القريبة من منزلهما .. تزاملا فى الفصل .. التقيا .. تعرفا على بعضهما .. زالت الحواجز بينهما .. جمعت بينهما مواقف كثيرة وهما فى مهد حياتهما تكللت بالحب والرضاء وعدم الاستغناء عن بعضهما .. وحتى ان اختلفا فى رأى معين .. لا يفسد للود بينهم اى قضية .. صارت حياتهما تعنى الأخوة الصـادقة دون رياء أو ضغينة .. كأنهما شخص واحد فى كل شئ .. لا يفترقا إلا عند نومهما .. زادت صداقاتهما كلما تخطا مرحلة دراسية تالية لما بعدها ..
وصلا المرحلة الثانوية .. نضج فكرهما معا .. لم يسع أحدهما للتفوق على الأخر .. أوقات الجد تجدهما رجال يعتمد عليهم .. ووقت الهزر ينصهـرا كأطفـال أبرياء لا يعنون شئ .. يتبارون فيما بينهما بصدر رحب غير مهم أيهما يكسـب الآخر .. المهـم أن يكونا مع بعضهما .. اصبحـا كتوأم ليس فى الشبه .. انما فى تصرفاتهما .. لا يترك أحدهما الأخر إلا على كلمة التوحيد .. وان اشتكى أحدهما من ضيق أو مرض شعر الأخر به فى ذات الوقت ..
افترقا فى المرحلة الجامعية .. نتيجة ما يفرضه مكتب تنسـيق الجامعـات على قبول الشباب بها وتوجيههم إلى كليات حسب مجموعهما وليس حسب رغباتهم التى تصبح دفينة لعدم تحقيق ما يصبوا اليه وهى ليس مشكلة منفردة أنما هى مشكلة أجيال يتوارثوها نتيجة اجتهاد كل منهم وحسب مقدرته فى استيعاب ما يحصله من مواد الثانوية .. وبرغم ذلك زادت الصداقة البريئة بينهما .. اصبحا حميمان .. زاد عليها حمية الشباب المنطلق .. خطى كل منهما المرحلة الأولى الجامعية بثبات واتزان .. وبوجدان وتفاعل أكثر مما مضى .
غرتهم نشوة الشباب .. كنا فى أواخر شهر شعبان .. نما إلى علمهما باقامة سباقات للسيارات قرب المطار .. فكرا لقضاء وقت ممتع وقضاء السهرة فى مشـاهدتها .. تأبط كل منهمـا الآخر .. تباعدا عن منطقة سكنهما .. همساتهما .. ضحكاتهما العالية .. صداها جلجل فى الفضاء .. لم يدركا أنها أخر همسات وضحكات بينهما .. وماذا يخبئ لهما القدر المحتوم .
وصلا مكان السـباق غير المنظم من جهـات مسئولة .. أخذا موقع جانبى على الطريق .. فجأة تهور أحد المتسابقين لخسارته ودخل بسيارته فى صف المشاهدين .. سقط كل من صدمته السيارة مغشيا عليه .. حقا انها صدمة رهيبـة من سـيارة طائرة على الطريق .. من شاب عربى .. اعمته الغيرة والهزيمة من خصمه ابن البلد ..
فاق بعضهم من غشيتهم ليجدوا حولهم منظر بشع شباب قطعت النفس دون حراك وشباب تتلوى من الآم الصدمة ..
أنفزع أحمد مدحت من هول الصدمة .. التى أحلت بهم .. باحثا عن صديق عمره أحمد حسين ليجده قد فارق الحياة .. تشـبث فى مكانه .. ضم صديقـه إلى صدره .. غطت دماء صديقه ملابسه .. كل شئ فى هذه اللحظات غير مهم .. وأيضا لا يدرى ماذا يفعـل وماذا يقول .. سنه لم يسمح له باستيعاب ما حدث ...
حضرت سيارات الأسعاف لنقـل الجميع إلى إقرب مستشفى وكل حسـب حالته .. هناك .. استدعوا أولياء أمورهم فى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل .. والدي الصديقان لم يستوعبا الموقف حال ابلاغهم بالهاتف .. تقابلا .. سلما أمرهما لصاحب الأمر .. توجها مباشرة إلى المستشفى .. وبالسؤال عن ولديهما عرفا أن أحمد حسين قد فارق الحياة ونقل لمشرحة المستشفى .. أما عن أحمد مدحت .. الحمد لله مازال عايش لكنه يتلقى بعض العلاجات البسيطة من الكدمات التى تعرض لها ..
أخذ مدحت أبنه بعد ان اطمئن عليه من الأطباء .. وتوجهوا مع حسين والد أحمد المتوفى إلى المشـرحة .. دخلها .. وتأكد من جثمان أبنه ومن ثم ظلا واقفون أمام المشرحة حتى الصباح ..
حدث هذا وسكان العمارة التى نقيم بها يغطون فى نوم عميق ولا يدرون ما يحدث فى الخارج .. المهم .. اًبلِغت فى صباح اليوم التالى من جارى القاطن بجوارى .. انتفضت مسرعا وارتديت ملابسى وتوجهت إلى المستشفى لأجد جمع غفير من البشر حاضرين للمشاركة فى تشييع الجنازة .. وعندما وقعت عينى على حسين الواقف مكلوم محصور .. تساقطت الدموع من عينى واخذته فى حضنى لأخفف عنه مصابه الأليم مع باقى الحاضرين ..
فى الجنازة كل الأمور عادية حتى وصلنا بالمتوفى إلى المقابر .. المقر الأخير .. فًتحت المقبرة .. تعالت اصوات النيحيب والبكاء والصراخ .. فجأة طلب حسين عدم الصياح والتهليل من النساء الحاضرة قريبة الشهيد أحمد حسين .. قائلا : انه رغم صغر سنه إنه قابل رب كريم .. انه يعد من زمرة الشهـداء عند الله .. فلا داعى لازعاجه وهو فى لقاء ربه .. ساد الصمت برهة إلا أننى شاهدت مشهد درامى لم اتوقع حدوثه والحاضرين معى .. الجميع تأثروا به وانخرطوا فى بكاء شديد .. اثناء السكينة التى دخلت القلوب قام التربى ومساعديه بإنزل جثمان أحمد حسين المقبرة .. انفجر الصديق الباقى أحمد مدحت فى البكاء وتعالى صوته بالصراخ .. معظم الحاضرين بكوا من شدة تأثر الصديق لفقد صديقه ولحظة دفنه والدموع غطت وجوه الجميع رجال ونساء وكأنها مظاهرة بكاء على الفقيد ..
هذا الموقف ذكرنى .. بموقف مشابه حدث فى أثناء معركة أكتوبر 1973 المجيدة مع الاختلاف فى بعض المفارقات ..
محمد ابراهيم ( رقيب رياضة .. مسئول التربية الرياضية بالوحدة التى كنا مجنـدين بها ) ومحمد شتا (عريف صف ضابط .. تعليمه الإبتدائية فقط .. مسئول عن كنتين الوحدة) صديقان حميمان من مدينة المحلة الكبرى .. تصـاحبا فى خلال وجودهما بالوحـدة العسـكرية التى جمعـت شـملهم وكنت بدرجة ( رقيب كاتب بذات الوحدة ) .. لكل منا دوره .. متى انتهـيا من مهامهما .. يلتقيان .. لا يفترقا أبدا .. من يراهما يشعر بتوأماتهما الخالصة شبها يزيد فيه شتا بشنبه العريض وتصرفاتهما كأنهما رسالة نسخ كربون .. متذكر تمـام فى يوم 11أكتوبر 1973 حـدث اننى ذهبت للكانتين لشراء باكو بسكويت وسجائر .. وجدت محمد إبراهيم بداخل الكانتين يتحدث ويتشاور مع محمد شتا .. قائلا له : يا ولا انت مش بلدياتى .
رد عليه : اى نعم يا ابن العم .. طب لو انا موت فى الحرب دى .. مين يذهب ليبلغ اهلى .. انا سأكتب لك عنوان دارنا واسم ابويا علشان تبلغه عنى .. وان ملاقتوش بلغ امى المهم حد يعرف انى موت وخلاص ..
قلت له يا شتا : هات السجاير والبسكويت علشان امشى اروح المكتب ..
كلام محمد ابراهيم ضرب فى رأسه .. وقال يعنىيا بو ابراهيم :
انا كمان ممكن اموت .. أنا سوف اكتب لك عنوان دارنا واسم ابويا ..
بالله عليك ما تقصر رقبتى مع اهلى وبلغهم فور حدوث شئ والأعمار بيد الله وانا لله وأنا اليه راجعون ..
أخذت طلبى وفى طريقى للمكتب مقر عملى سمعت دوى قنبـلة ارتطمـت بمبنى الكنتين .. وتلتها قنبلة ثانية .. وثالثة .. حتى دك الكانتين وأصبح تراب على الأرض ..
تجمع العساكر وخرج قائد الوحدة من مكتبه ليرى ما احدثته هذه القنابل المفزعة .. أمر الجنود برفع التراب ثم استخراج الجثث من تحت الأنقاض والتى وضح انها اجزاء متناثرة من أجسام محمد ابراهيم ومحمد شتا ..
قمت باستخراج الأوراق المكتوبة من جيب سترة كل منهما على حده .. واعطيتهما لقائد الوحدة ..
قال لى : ما هذه الأوراق ..
قلت له : هذه الوريقات الصغيرة أخر ما كتباه أمامى وتحمل عنوان كل واحد منهم مع الآخر للأبلاغ عنه فى حالة وفاته ..
وجدت قائد الوحدة ينفجر فى البكاء من هول الحدث ونية الإنسان وأمله فى صديقه .. وتبعه باقى الحاضرين من الجنود .
بعد ذلك .. قائد الوحدة قال لى : عليك يا محمد أن تقوم بإبلاغ إدارة المباحث العسكرية وإدارة التوجيه المعنوى لإبلاغ أسرهم باستشهادهما ..
ولكنها كانت عبرة لمن لا يعتبر .. الصداقة .. قليلة .. يبحث الإنسان عنها فى كل الوجوه التى يقابلها .. لأن الصداقة احتياج انسانى .. الضرورى بذل المجهود السخى والأمانة والصدق حتى يعثر عليها فيما تعاشره من البشر .. والكلمة الطيبة صدقة .. والذكرى الطيبة حسنة .. مؤمنين بأن الدوام لصاحب الأمر ..
انتهت بحمد الله ،،،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق